قابلته عند أحد الأخوة، وجهه الهادئ أشعرني بالراحة والطمأنينة، فأقبلت عليه بعدم تكلّف وصرت أسأله الكثير من الأسئلة التي كانت في جعبتي، أسئلة فقهيّة أريد لها إجابات، لم يتأفّف، بل أخذ يشرح لي بصبر وتؤدة وينوّرني لأمور كثيرة، وأعطاني رقمه الخاصّ حيث صرت أتصّل به كلّما واجهني أمر، وتكرّرت الاتصالات حتى صار من أعزّ أصحابي.
كم كنت فخورا بصحبته، كيف لا وهو الداعية المعروف في البلد الذي كنت وهو مغتربين فيه..
وذات مساء، ونحن نخرج من المسجد بعد صلاة العشاء، إذ بيد تربّت على كتف صاحبي أحمد محيّية، التفتنا وإذا بي أمام شيخ كبير، رسمت التجاعيد رسومات على وجهه تنبئ أنّ حياته لم تكن بالسهولة التي قد يظنها البعض.
سلّم عليه أحمد بحفاوة واستفسر عن صحّة الأهل والأبناء، ثمّ تركناه وأكملنا طريقنا إلى السيارة، فالمسجد كان بعيدا عن بيتينا، وكان علينا السير مسيرة نصف ساعة لنصل إلى المنطقة التي نقطن فيها، هذه هي حال المسلمين في الغرب، ومشكلتهم مع المساجد البعيدة والمعدودة.
ركبنا السيارة وقادها أحمد الذي كان صامتا مفكّرا بعد لقائه بالعجوز، وإذا به بعد فترة يهزّ رأسه بحزن وتترقرق دمعة من عينه وهو يتمتم: ليرحمها ربي، ويغفر لأهلها ويرحمهم.
نظرت إليه مليا وأنا أسأله مستفسرا:- عمن تتكلّم؟ من هي ؟ وهل ماتت؟؟
هزّ رأسه وقال:- هي فتاة عربية مسلمة، من جاليتنا، اتتني منذ سنوات المسجد، وسألتني أن أتوسّط لها عند أهلها ليعيدوها إلى البيت بعد أن طردها والدها منه وتبرّأ منها.
- يا إلهي...كيف استطاع فعل ذلك؟ أليس عنده قلب؟؟ أيطرد ابنته التي من لحمه ودمّه؟؟ ماذا ترك للكفّار إذن؟
- أنا لا ألومه يا أخي، فهو أب مسلم يغار على عرضه، وهي فرّطت في شرفها ، وخرجت مع من سمته (البوي فراند)، فما كان من والدها إلا أن طردها من البيت ، وهي ابنة الستة عشر ربيعا.
- ولو... أيطردها بدلا من أن يعالج الأمر بطريقة إسلامية إجتماعية؟ هذا تخلّف.
- أنا معك في هذا، لأنه عندما طردها راحت وتمادت مع صديقها الذي ما لبث أن ملّها فتركها كريشة في مهبّ الريح ، تتخاطفها الأيدي القذرة، مع أنّها حاولت بعد ترك صديقها لها أن تتصّل بأهلها وتترجاهم أن يسمحوا لها بالعودة، فما كان ردّ الأبّ إلا أن قال أن ابنته ماتت منذ ضلّت عن شرع الله، وعن الأخلاق التي زرعها أبوها فيها وفي اخوتها، وبعد رفضه لها لم تجد سبيلا إلا أن تصير سلعة رخيصة، تبيع نفسها لتؤمن السكن والصحبة.
سكت أحمد مع تنهيدة عميقة، وسحابة حزن غطّت وجهه.
نظرت إليه أحثّه أن يكمل قائلا له:- وكيف ماتت؟؟
عندما أتتني المسجد لأتوسّط لها عند أهلها كانت في أشهرها الأخيرة مع المرض، مرض الإيدز الذي عرف طريقه إليها وهي ابنة الثمانية عشر ربيعا، مسكينة يا أخي، صورتها تسيطّر الآن على مخيلتي ، تلك الصورة التي سيطرت زمانا وحرمتني من النوم أياما.. هيكل عظمي يتحرّك، شكل مخيف..أتتني وارتمت تحت قدميّ تقبلهما، قالت إنها لا تريد إلا أن تودّع عائلتها قبل رحيلها عن هذه الدنيا، وأن تفارقها وهي في بيتهم وتحت رعايتهم.
حينها، بكيت والأخوة الذين كانوا معي...وأخذت منها العنوان وسألت بعض الأخوات في المسجد رعايتها والانتباه عليها، ثم أخذت طريقي ومعي بعض الأخوة قاصدين بيت أهلها.
طرقنا الباب ففتحت لنا امرأة عجوز تلبس حجابا ، رحّبت بنا ترحيبا شديدا وأدخلتنا إلى غرفة الاستقبال وتركتنا لتخبر زوجها بحضورنا، كلّ هذا الترحيب ولم تعرف بعد من نحن..
أتعرف.. ترحيبها أعاد إلى ذاكرتي أمي وأهالينا في الوطن، وذكّرني بكرمهم وحفاوتهم بالضيف..
دقائق قليلة ودخل علينا شيخ كبير، يتوكّأ على عصا، ترحيبه بنا لم يقلّ عن ترحيب زوجته، أجلسنا على أريكة وجلس قبالتنا، وراح ينظر إلينا نظرات استفسار.
لم نتركه يطيل التساؤل فلقد بادرته قائلا:- عمي الكريم، اسمح لي بأن أناديك عمي، نحن يا عمي ما جئناك إلا ونحن طامعون بكرمك وبأنّك لن تردنا وقد قطعنا المسافات الطويلة، فهل يا ترى سنخرج من عندك وقد أجبت لطلبنا؟؟
تبسّم العجوز ابتسامة حيرة وقال: ان شاء الله لن تعودوا إلا وأنتم مجابون ما دمت أستطيع ذلك.
- تستطيع بإذن الله يا عمي..نحن آتون من طرف ابنتكم فلانة..
وقف الأب فجأة وأشار بيده إلى الباب وبصوت عال مرتجف قال: ليس عندي ابنة بهذا الاسم، هي ماتت منذ سنوات، هيا اخرجوا من بيتي..لا أريد أن أسمع سيرتها ولا أن أقابل معارفها، تبا لكم..هل أنتم مثلها؟؟ أستغفر الله العظيم، ماذا حصل للشباب المسلم يا الله؟
وبينما هو يتكلّم حانت مني التفاتة إلى الباب فإذا بي أرى الأمّ تقف أمام الباب وقربها صبيتان في كامل لباسهما الشرعي، وقد امتلأت وجوههن دموعا..
قلت للأبّ حينها وبنبرة حاولت جهدي أن تكون هادئة: - أرجوك يا عمي، حاول أن تسمعنا، ابنتك أتتنا المسجد وقد تابت توبة نصوحا، والمرض قد نال منها ما ناله، ابنتك يا عمي لا تريد إلا رضاكم عنها، وأن تموت بين أذرعكم وفي البيت الذي نشأت بين جدرانه، هي أمنية مودّع فلا ترفضها أرجوك..
أطرق الأب هنيهة وكأنّه غير مصدّق، وفاضت دميعات من عينيه حاول جاهدا إخفاءها، ولكنّه قال:- ابنتي ماتت منذ سنوات، هذا آخر كلام لديّ.
- أرجوك يا عمّي، هي ندمت وتابت، ارحمها وسامحها لتقابل مولانا بنفس راضيّة.
- ماذا؟؟؟أسامحها بعد أن مرّغت أنفي بالتراب؟؟ أسامحها بعد أن عصت الله وباعت نفسها رخيصة للشيطان؟؟؟لا..لن أسامحها وليس عندي ابنة بهذا الاسم، اذهبوا وقولوا لها أن تموت كالقطط والكلاب، مادامت رضيت على نفسها العيش عيشتها، اخرجوا أرجوكم فلا كلام عندي غير هذا الكلام.
هززت رأسي بحزن وتوجّهنا إلى الباب، وإذ بالباب تقف الأمّ وقد غرقت ببكاء صامت، نظر إليها زوجها ، فتمتمت شفتاها بكلمة أرجوك..توقفنا جميعا امام منظرها حينما ارتمت تحت قدميه تتوسّل إليه أن يسامح ابنته ويغفر لها، دموعها بلّلت الأرض ..انحنى الزوج إليها، أمسك يدها وأوقفها.
هنيهات صمت خيّمت على المكان، لا يسمع فيها إلا صوت بكاء الأمّ والابنتين..قطع الأبّ الصمت قائلا وهو يهزّ رأسه ليطرد البكاء الذي ظهر في نبراته:- اذهبي إليها ان شئت، لكن لوحدك، ولن أسمح لها بالعودة إلى البيت، قابليها حيث هي، وإياك ثم إياك أن تتكلمي عنها في البيت، لا أريد أن أسمع عنها أي شيء، هي انتهت بنظري ولن تعود إلى الحياة..اذهبي إليها واسهري على راحتها، هذا كلامي النهائي.
ما ان سمعت الأم كلامه حتى ركضت إلى غرفتها تضع العباءة عليها وكأنّ عصا سحرية أعطتها قوّة ونشاطا..
أخذناها معنا، ونحن في طريق العودة لم تسكت وهي تتكلّم عنها، تحكي لنا عن ابنتها كم كانت جميلة، تقول إنّها الأجمل بين أخواتها وأخوتها، فارعة الطول ملفوفة القدّ، ذات بياض باهر وحمار على الخدين رائع، وأخبرتنا كيف كانت مغترة بجمالها، مع أنّ والدها حاول كثيرا أن يخفّف من غرورها لكنّه لم يفلح، وكان يجبرها على لبس الحجاب والعباءة، لكنهم اكتشفوا أنّها تخلعهما أمام المدرسة، كانت المدرسة مختلطة، فهي المدرسة الوحيدة القريبة من البيت، عندما عرف الوالد بما تفعله بحجابها منعها الخروج من البيت، وأوقفها عن الدراسة ، إلا أنّها هربت منه ، حاول والدها وإخوانها البحث عنها فوجدوها مع صديق لها في المدرسة ، وجدوها في بيته...ولولا لطف الله بنا لكنا خسرنا الأب والابنة معا، فقد هجم عليها والدها وحاول قتلها، لكنّ الجيران كانوا أسرع منه فقد أخبروا الشرطة التي أتت واعتقلته، بقي في السجن ستة أشهر وطرد من عمله، أمّا هي فلم تتصل أو تتكلّم، وبعد سنة اتّصلت بنا لتخبرنا أن صديقها طردها من بيته وأنها تريد العودة إلى البيت، كانت تبكي وتتوسّل إلينا، لكنّ والدها رفض عودتها وقتها، فانقطعت أخبارها عنّا إلى أن أتيت أنت بها..
إلى هنا توقّفت الأمّ وأجهشت ببكاء لم ينقطع حتّى وصلنا إلى المسجد.
ما إن وصلنا حتى ترجّلت الحجّة من السيارة مسرعة آخذة طريقها إلى قسم النساء حيث كانت تقبع ابنتها، نادت عليها بصوت تخنققه العبرات وتغلّفه اللهفة، لهفة الأمّ على ابنتها التي لم ترها لسنتين، لهفة أمّ على ابنة خرجت من البيت دون وداع وفضّلت حياة العبث والمجون على حياة الفضيلة والعبادة..
خرجت البنت راكضة حينما سمعت صوت أمّها ينطق اسمها، ولكن.. ما إن رأتها الأمّ وقد هزلت هزالا شديدا وسيطر الصفّار على وجهها وجسمها حتى سقطت مغشيّا عليها..
بقيت الأمّ تزور الفتاة يوميّا رغم بعد المسافة ، وبقيت الفتاة تسكن المسجد حتى حانت لحظة وداعها لهذه الدنيا الفانية، في تلك الدقائق وهي في النزاع الأخير ونحن نلقّنها الشهادة ورأسها على صدر الأمّ المنتحب رنّ جرس جوالي، وكان المتصّل والدها، طلب أن يكلمها، وكأنه شعر بنزاعها، قرّبت السماعة من أذنها، لم يستطع أحدنا أن يسمع ماذا قال لها ، لكنها تبسّمت ونطقت بالشهادتين على مسمع من والدها وغابت عن هذا العالم.
جنازتها كانت مختصرة وصغيرة، لم يحضر الدفن إلا أخوتها وبعض الأخوة عندنا، لم يحضر والدها الدفن بسبب وعكة صحيّة أقعدته بعد موتها مباشرة، وبعد الدفن بيومين زرته في المستشفى وكانت صحته قد شرعت بالتحسّن، ضمّني إلى صدره وبكى، قال إنّه لن ينسى وقفتنا معه ومع ابنته، وبعد ذلك اليوم، انقطعت أخباره عني، فالمشاغل كثيرة إلى أن رأيته الليلة صدفة.
رفعت رأسي إليه وأنا أمسح دمعة سقطت على خدي وقلت باستغراب:- هل تقصد ذاك العجوز الذي حياك في المسجد؟ أهو والدها؟؟ آه ما أغباني.. كيف لم أفطن لهذا..لكن.. كم قصة هذه الفتاة مؤثّرة ومؤلمة، ما الذي دفعها لفعل هذا الأمر؟
- الانشداه بالغرب يا أخي.. كم من الفتيات ضللن وكم من الأمهات ضعن، وكم من الآباء والشباب تاهوا عن جادة الصواب بسبب التشبّه بالغربيين وبحضارتهم الزائفة.
- نعم صدقت، كم نحن بحاجة لسماع قصص هؤلاء لأخذ العبرة والتبصّر، فليتك تتحفنا بما لديك، فأنت داعية مهم وتعرف الكثير عن قصص مماثلة..
- باذن الله تعالى، لك في كل شهر قصّة حصلت معي لكن...لتكن كما قلت لأخذ العبرة فقط.
من ذكريات داعية .. سامحني يا أبي
أ.سحر عبد القادر اللبّان