جبر
عدد المساهمات : 21 تاريخ التسجيل : 01/01/2011
| موضوع: الإعداد والجهاد في سبيل الله الجمعة فبراير 25, 2011 11:13 am | |
| إن من سنن الله تعالى التدافع بين الحق والباطل، قال الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}، بما شرع لهم من أساليب الدفع، ومنها فريضة الجهاد في سبيل الله، فإن قوام الدين بالكتاب الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، وبالجهاد الذي ينصر الكتاب ويحمي الشريعة، وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}.
قال السعدي رحمه الله: (يقول تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات}؛ وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيقته، {وأنزلنا معهم الكتاب}؛ وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب، التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم، وإلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. {والميزان}؛ وهو العدل في الأقوال والأفعال. وذلك {ليقوم الناس بالقسط}؛ قياماً بدين الله، وتحصيلاً لمصالحه التي لا يمكن حصرها وعدها. هذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت صور العدل، بحسب الأزمنة والأحوال. {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد}؛ من آلات الحرب كالسلاح والدروع وغير ذلك. {ومنافع للناس}؛ وهو ما يشاهد من نفعه في أنواع الصناعات والحرف، حتى أنه قل أن يوجد شئ إلا وهو يحتاج إلى الحديد. {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}؛ أي ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره، وينصر رسله في حال الغيب. {إن الله قوي عزيز}؛ أي لا يعجزه شئ، ولا يفوته هارب. ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد، الذي منه الآلات القوية، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب.
وقرن تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد، بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلمته؛ بالكتاب، الذي فيه الحجة والبرهان، والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمه الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على السنة رسله).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكلمه بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من اقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين - هما السبيل المغضوب عليهم والضالين. الأولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود، وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيله، فإن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، كما ذكره الله تعالى. فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، ولطلب ما عنده، مستعيناً بالله في ذلك).
وقال تعالى: {واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}.
يأمر الله تعالى بإعداد العدة وبذل الوسع في ذلك باتخاذ القوة وتحصيل أسبابها ومن رباط الخيل وهذا مما يحصل به إرهاب الأعداء في ذلك الزمان والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيجب على الأمة أن تتخذ من العدة والسلاح في هذا الزمان ما يحصل به إرهاب الأعداء.
ولما كان الأعداد من صناعة للسلاح وتجهيز للغزاة، وتحصيل لوسائل القوة والإعداد يتطلب جهاداً بالمال قال تعالى: {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: ({وأعدوا}؛ لأعدائكم الكفار، الساعين في هلاككم، وإبطال دينكم. {ما استطعتم من قوة}؛ أي كل ما تقدرون عليه، من العقلية والبدنية، وأنواع الأسلحة ونحو ذلك، مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع، والرشاشات، والبنادق، والطائرات الجوية، والمراكب البرية، والقلاع، والخنادق، وآلات الدفاع والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتعلم الرمي والشجاعة والتدبير).
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي).
ومن ذلك؛ الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال:
ولهذا قال تعالى: {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته، فإذا كان شيء موجوداً أكثر إرهاباً منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها اشد، كانت مأموراً بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توحد إلا بتعليم الصناعة، وجب ذلك، لأن "ما لا يتم الواجب به، فهو واجب".
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن القوة الرمي.. ألا إن القوة الرمي.. ألا إن القوة الرمي).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ستفتح عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه).
وعن فقيم اللخمي قال لعقبه بن عامر: (تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك؟)، قال عقبة: (لولا كلام سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أعانه). قال الحارث - أحد الرواة -: (فقلت لابن شماسة - راويه عن فقيم -: وما ذاك؟)، قال: إنه قال: (من علم الرمي ثم تركه، فليس منا - أو قد عصى -).
وقال صلى الله عليه وسلم (ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً).
ومن الإعداد تحريض المسلمين على الجهاد في سبيل الله:
كما قال الله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف باس الذين كفروا والله اشد بأساً واشد تنكيلاً)، وتربية الأجيال المسلمة على العزة والشجاعة والقوة، من خلال وسائل الدعوة ودور التربية والتعليم، وأن يذكر المسلمون بفضائل الجهاد ويرغبوا فيه، فإن الله تعالى نفى تسوية القاعدين بالمجاهدين، فقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً}.
وقال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم اعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. قال: ثم من؟ قال: رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا أجده. ثم قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال الرجل: ومن يستطع ذلك؟!).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مقام الرجل في الصف أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل).
قال النحاس: (وفي الحديث دليل واضح على أن إقامة المرابط يوماً واحداً بأرض الرباط على الثغور أفضل من الإقامة ألف يوم فيما سواه من المنازل، ولو كانت مكة أو المدينة أو بيت المقدس).
ومن الإعداد؛ أن يحول الكلام النظري إلى واقع عملي:
وتزكى فيه النفوس، وتنمى فيه القدرات والمهارات القتالية من خلال التدريب والتمرين، فإن الخوف من حمل السلاح وعدم الصبر على مشقة القتال إنما يزول بالممارسة والمعالجة الطويلة حتى يصبح حمل السلاح والصبر على الجهاد أمراً مألوفاً.
وأما الشعوب المترفة التي ألفت حياة الدعة والتنعم وسكنت إلى الراحة ولم تترب على الصبر والقوة ولم تعتد خشونة العيش فإنها صيداً سهلاً وغنيمة باردة لأعدائها فلا تتحمل الصعاب ولا تقوى على مقاومة الأعداء، قال تعالى: {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة}، وقال تعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يعلمون}.
ورغم أن فريضة الإعداد واجبة على المسلمين بما يحصل به إرهاب الأعداء ودفع كيدهم وعدوانهم على بلاد الإسلام، وحماية الثغور، وإقامة الدين والجهاد في سبيل الله.
فقد تخاذل كثير من الأمة عن هذه الفريضة تخاذلاً مذلاً، وتركوا قضايا الأمة إلى الكفار، يفصلون فيها ويقتسمون أراضي الأمة وخيراتها، كما هو مشاهد اليوم في فلسطين وكوسوفا ومنطقة القفقاز وغيرها، وكل هذا الكيد والعدوان على الأمة الإسلامية يتم باسما السلام والأمن، وأي جهاد للدفاع عن الإسلام والمسلمين فهو إرهاب ممنوع.
وقد انخدع بتلبيسهم الماكر وقلبهم للحقائق وتسميتهم الأسماء بغير اسمها إلى السماحة وأن دين الإسلام هو دين السماحة، وهي كلمة حق أريد بها باطل، حين يقابل بها الأعداء المغتصبون الذين يجب جهادهم وإظهار القوة وإعداد العدة لاستئصال شرهم وبغيهم، قال تعالى: {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله ورسوله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}.
أو بدعوى الاعتراف من هيئة الأمم وأخذ الإذن منها، والرجوع والتحاكم إليها في مشروعية الجهاد بالنفس والمال، وهذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى بالكفر به، فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويردي الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم داء هذه الأمة وضعفها ودواءه وقوتها بياناً شافياً، في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) قيل: يا رسول الله أمن قلة يومئد؟ قال: (لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) وفي رواية: قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: (حبكم للدنيا وكراهيتكم للقتال).
فتسليط الذل على هذه الأمة عقوبة لها لارتكابها المحرمات كالربا وركونها إلى الدنيا وانشغالها بها وتركها الجهاد في سبيل الله، ولا ينزع هذا الذل والضعف وتكالب الأعداء عليها إلا برجوعها إلى الجهاد في سبيل الله وزهدها بالدنيا.
قال ابن النحاس رحمه الله: (إذا ترك الناس الجهاد، وأقبلوا على الزرع ونحوه، تسلط العدو عليهم، لعدم تأهبهم له، وعدم استعدادهم لمواجهته، ولرضاهم بما هم فيه من الأسباب الدنيوية، ولذلك يوقع الله بهم الذل والهوان عقوبة لهم ولا يتخلصون منه حتى يرجعوا إلى أداء ما أوجبه الله عليهم، من جهاد الكفار وإقامة الدين ونصرة الإسلام وأهله).
فالحياة الكاملة الكريمة في الدنيا، وحياة النعيم الخالد في الآخرة إنما تنال بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
قال عروة بن الزبير في الآية: (أي للحروب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم).
وقد اتفق العلماء على أن الكفار إذا دخلوا بلاد الإسلام فإن الجهاد في هذه الحالة يصح فرض عين، لا يجوز التخلف عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شئ أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان).
وقال: (إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلهما بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ونصوص أحمد صريحة بهذا).
وقال القرطبي: (إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعُقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، من مقاتل أو مكثر. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى علموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو... ولا خلاف في هذا).
قال ابن عبد البر: (فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين والأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً وشباباً وشيوخاً ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج فالمسلمون كلهم يد على من سواهم حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه).
ومن الأدلة على هذا الحكم المجمع عليه قول الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}، وقال تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.
وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب، قال تعالى: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}.
وكما أن الله تعالى أوجب الجهاد بالنفس فقد أوجب الجهاد بالمال وحث عليه ورغب فيه، فإن الجهاد يقوم على أمرين:
الأمر الأول: الجهاد بالنفس وهو أن يبذل العبد نفسه ابتغاء مرضات الله، ونصرة لدينه، ودفاعاً عن حرماته.
والثاني: الجهاد بالمال الذي يحصل به إنشاء المصانع الحربية، وشراء السلاح، والعتاد، والطعام، ووسائل النقل والإتصال، والمواد الطبيعية وغير ذلك.
ولهذا ذكر الله تعالى الجهاد بالمال في آخر آية الإعداد، {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، فقال: {وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق في سبيل الله، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت في نفسي: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً فجئت بنصف مالي. فقال لي رسول الله صلى الله لعيه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر الصديق بكل ما عنده. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسبقك في شئ أبداً).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما النفاق الأصغر: فهو النفاق في الأعمال ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن، ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق".
وقد أنزل الله سورة براءة التي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين. أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس، قال: "هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظنوا ألا يبقى أحد إلا ذكر فيها ". وعن المقداد بن الأسود قال: "هي سورة البحوث لأنها بحثت عن سرائر المنافقين". وعن قتادة قال: "هي المثيرة لأنها أثارت مخازي المنافقين". وعن ابن عباس قال: "هي المبعثرة"، والبعثرة والإثارة متقاربان.
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم؛ غزوة تبوك، عام تسع من الهجرة، وقد عز الإسلام وظهر. فكشف الله فيها أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن، وترك الجهاد. ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله، والشح بالمال. وهذان داءان عظيمات: الجبن والبخل.
قال صلى الله عليه وسلم: "شر ما في المرء؛ شح هالع وجبن خالع".
ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار، كما دل عليه قوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}، وقال تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}.
وأما وصفهم بالجبن والفزع؛ فقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجئاً أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون}؛ فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين فما هم منهم، ولكن يفزعون من العدو. {لو يجدون ملجئاً}؛ يلجأون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من ترك الجهاد، أو {مغارات}؛ وهي جمع مغارة. ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها، أي يستتر، كما يغور المار. {أو مدخلا}؛ وهو الذي يتكلف الدخول إليه، إما لضيق بابه، أو لغير ذلك. أي مكاناً يدخلون إليه. ولو كان الدخول بكلفة ومشقة، {ولوا}؛ عن الجهاد، {إليه وهو يجمحون}؛ أي يسرعون إسراعاً لا يردهم شئ، كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام.
وقال في وصفهم بالشح: {وما منعم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}؛ فهذا حال من أنفق كارهاً فكيف بمن ترك النفقة رأساً. وقال: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله}؛ فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله. والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله، سواءً كان ملكاً أو مقدماً، أو غنياً أو غير ذلك).
وقال شيخ الإسلام: (ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله، وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله: {انفروا خفافاً وثقالاً}، فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها كما تجب النفقات والزكاة، وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية، فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً.
ولذلك قلت؛ لو ضاق المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه قدمنا الجهاد وإن مات الجياع، كما في مسألة التترس وأولى، فإن هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله).
والأمة اليوم بحاجة إلى التخطيط المحكم، والعمل الجاد إلى بلوغ الأهداف المنشودة، وهي نصرة الإسلام والدفاع عن بلاد الإسلام، ولو كانت هذه الأهداف لا تتحقق إلا بعد سنوات من العمل والجهاد.
وما نراه اليوم يحدث في كوسوفا والشيشان من تشريد وتهجير وسفك للدماء وهتك للأعراض، وهم عُزَّل عن السلاح ووسائل القوة، وما نراه من الأمة الإسلامية من ضعف وتأخر في نصرة المسلمين المستضعفين بعد أن سفكت الدماء وانتهكت الحرمات واغتصبت المسلمات، كل هذا يدل على غياب التخطيط المسبق لقضايا الأمة، وترك الإعداد لمواجهة الأعداء، وضعف التعاون والتناصر بين المسلمين.
أحل الكفر بالإسلام ضيما يطول عليه للدين النحيب فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة لها حرمٌ سليب وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب أمور لو تأملهن طفل لطفق من عوارضه المشيب أتسبى المسلمات بكل أرض وعيش المسلمين إذاً يطيب؟ أما لله والإسلام جند تدافع عنه شبانٌ وشيب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
في وقت أصبحت التحالفات العسكرية بين النصارى مع اختلاف شعوبهم وبين اليهود والنصارى، هي الطريقة الأقوى لتحقيق الأطماع وتنفيذ الكيد والمكر في محاربة الإسلام، قال تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
وقد استطاعوا صناعة الأسلحة المدمرة إرهاباً وتخويفاً لخصومهم، وحرموها على المسلمين، ودعموا إسرائيل بالأموال وفتحوا السبل أمام المنظمات اليهودية وغيرها أن تجمع التبرعات مساندة للحكومة الصهيونية، وحجروا على الهيئات الخيرية الإسلامية وتجار المسلمين أن يجاهدوا بالمال في سبيل الله وأرهبوهم بدعوى دعم الإرهاب، ويساند هذا الكيد والمكر أنظمة ووسائل إعلام مضللة جعلت الحق باطلاً والباطل حقاً.
وأما هذه الضغوط السياسية والإعلامية، ضعفت بعض النفوس وأمسكت بعض الأيادي عن الإنفاق، فتحقق بعض ما أراده اليهود والنصارى في حربهم لفريضة الجهاد التي تقف سداً منيعاً يحول دون تحقيق أطماعهم في أراضي وثروات المسلمين.
وقد نهى الله تعالى عباده عن طاعة من تجب طاعته كالوالدين إذا أمرا بمعصية، فكيف بطاعة الكفار من اليهود والنصارى في معصية الله، قال تعالى: {ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علنيا نصيراً}، وقال تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً * واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيراً}.
إن العودة الصادقة إلى دين الله تعالى وإلى الإعداد والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال هي بداية التحول التاريخي للأمة بإذن الله، وهي القوة الرادعة التي يحمي بها الدين والدماء والأعراض والأموال، كي لا يتكرر ما جرى في كوسوفا وفي منطقة القفقاز وفي غيرها من البلاد الإسلامية، وهي الطريق إلى النصر والتمكين وإقامة شريعة الله تعالى في الأرض.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طية في جنات عدن ذلك الفوز الكبير * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
| |
|