بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة الإعداد العسكري
اخوانكم في موسوعة الاعداد العسكري يقدم لكم هذه المادة
التدريب العسكري للمسلمين
الحمد لله على نعمة الإسلام وما لها من الفضل والجود والكرم والإحسان والصلاة والسلام على سيدنا وقائد المجاهدين محمد وعلى آله وصحبه الكرام وبعد:
أولا: أهمية التدريب العسكري للمسلمين
قال صلى الله عليه وسلم : («يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ:«أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ تُنزعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيُجْعَل فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» قَالُوا وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).
وقال صلى الله عليه وسلم : (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).
والحديثان بمعنى واحد، وهما ـ ولاشك ـ يصفان حال المسلمين اليوم، أحبوا الدنيا وكرهوا الموت وتركوا الجهاد، فسَلَّط الله عليهم الأمم الكافرة تسومهم الذل والهوان وهذه عقوبة قدرية واقعة لا محالة بتاركي الجهاد، كما قال الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فالعذاب الأليم في الآية، منه الذل المذكور في حديث ابن عمر، ومنه تداعي الأمم علينا المذكور في حديث ثوبان. والخَلاَص من هذا يكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : «لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» وهذا يكون بالعودة إلى الجهاد المذكور في أول الحديث، وهذا يتفق مع قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. وقول الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
ولاشك أن هذا الأمر الرباني سيثير سؤالا. وهو كيف لنا بتنفيذ هذا الأمر، ونحن ـ المسلمين ـ قد بلغنا من العجز والفرقة والفتن تجعل الحليم حيران؟
ونُجيب بقول ابن تيمية: [يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب].
والإعداد للجهاد نوعان: إعداد إيماني بالعلم الشرعي، والتزكية {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. وإعداد مادي بإعداد القوة والتدرب عليها وبالنفقة في سبيل الله. وسنرجئ الكلام عن الإعداد الإيماني، ونبدأ بضوابط الإعداد المادي للجهاد، إذ أنه سبب كتابة هذه الرسالة، فنقول قد أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}. وورد في تفسير هذه الآية حديث عقبة بن عامر t قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي». وهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم للآية هو نص في موضع النزاع بين من يقول إن الإعداد للجهاد يكون بالتدريب على السلاح وبين من يقول الإعداد يكون بالتربية والتزكية، إذ إن الحديث يبين أن القوة التي أمر الله بإعدادها هي القوة المادية من مختلف أسلحة الرماية مع التدريب عليها، وهذا مما لا يسع المسلم تركه كما سنذكر في حكم التدريب.
أما التربية والتزكية فهي داخلة في الإعداد الإيماني للجهاد وهو واجب أيضا وسنذكر دليل ذلك فيما بعد، ومعسكرات التدريب وساحات الجهاد لو أُحْسِنَ رعايتها تكون خير مكان لتربية الرجال والكشف عن معادنهم وسلوكهم، بما توفره من طول المعاشرة والتعرض للمشاقّ والأسفار. وسنتكلم عن الإعداد الإيماني في أكثر من موضع في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى. فلا خلاف على ضرورة الإعداد الإيماني مع الإعداد المادي، أمَّا أن يُصْرَف معنى الإعداد في الآية على الإعداد الإيماني وحده، أو اتخاذ الإعداد الإيماني ذريعة للقعود عن الإعداد المادي والتدريب فهذا ما يأباه النص القرآني والحديث، ونحن بالتالي لا نرضى بذلك.
والخلاصة: إن أهمية التدريب العسكري تأتي من كونه أحد صور الإعداد للجهاد، والجهاد هو طريق الخلاص للمسلمين من غضب الرب سبحانه وتعالى، ومن حياة الذل والمهانة التي يحيونها في هذا الزمان.
ثانيا: حكم التدريب العسكري للمسلمين.
هو واجب على كل مسلم مكلف من غير أصحاب الأعذار الشرعية، إذ إنه مقدمة من مقدمات الجهاد، وأدلة وجوب التدريب هي:
من المعلوم أن الجهاد يكون فرض عين على كل مسلم في مواضع مبينة في كتب الفقه، وهي كما ذكرها ابن قدامة الحنبلي في كتابِهِ المُغني قال: [ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصَّفان حَرُمَ على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وقولـه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ}.
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث: إذا استنفر الإمامُ قوماً لزمهم النفير معه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}الآية والتي بعدها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وإذا استنفرتم فانفروا»].
ويتضح من هذا أن الجهاد يكاد أن يكون فرض عين على جميع المسلمين الآن، خاصة الموضع الثاني (إذا نزل الكفار ببلد) فمعظم بلدان المسلمين الآن يحكمها ويتسلط عليها الكفار، إما مستعمر أجنبي كافر وإما حكومة محلية كافرة. وإذا تعين الجهاد فإن تركه يكون من الكبائر للوعيد الوارد فيه، بل من السبع الموبقات بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا يتبين وجوب التدريب العسكري لكونه من الإعداد للجهاد الذي يمكن أن يتعين على كل مسلم في أي وقت، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قولـه تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، مع حديث عقبة بن عامر مرفوعا «ألا إن القوة الرمي». فالأمر للوجوب مع عدم وجود قرينة صارفة إلى الندب، فإذا وجب الإعداد، فقد وجب التدريب إذ أنه جزء هام من الإعداد.
وقال الصنعاني في شرح حديث عقبة هذا: [أفاد الحديث تفسير القوة في الآية بالرمي بالسهام لأنه المعتاد في عصر النبوة، ويشتمل الرمي بالبنادق للمشركين والبغاة، ويؤخذ من ذلك شرعية التدريب فيه، لأن الإعداد إنما يكون مع الاعتياد إذ من لم يحسن الرمي لا يسمى معدا للقوة .
قول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}. فجعل سبحانه ترك إعداد العدة الجهاد (ومنه التدريب) من صفات المنافقين، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الأمر في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} هو للوجوب لوقوع الذم على تركه، وهذا يتضح أيضا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِفَاقٍ).
قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى». وقال النووي: [هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه، وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر].
قلت فإذا كان هذا الزجر والوعيد في حق من تعلم الرماية ثم لم يواظب على التدريب حتى لا ينساها، فكيف بمن لم يتعلمها ابتداء ؟.
وهناك أدلة أخرى، فنكتفي بما سبق خشية الإطالة. والخلاصة أن التدريب العسكري واجب على كل مسلم مكلف من غير ذوي الأعذار.
ويقول الأستاذ محمد شيت خطاب الكاتب في العسكرية الإسلامية: [(التدريب على السلاح) لا قيمة لأي سلاح من الأسلحة إلا باستعماله، والتدريب على استعمال السلاح تدريبا راقيا دائبا هو الذي يؤدي إلى استعماله بكفاية، والمقاتل المُدَرَّب على استعمال سلاحه هو وحده يستطيع استعماله بنجاح، أما المقاتل غير المُدَرَّب فلا يستفيد من سلاحه كما ينبغي، والمُدَرَّب يستطيع التغلب على غير المُدَرَّب بسهولة ويسر ـ إلى قوله ـ وقد كان العرب قبل الإسلام يتدربون على استعمال السلاح ولكن لم يكن تدريبهم إلزاميا، فكان منهم من لا يتدرب بحسب رغبته وهواه. فلما جاء الإسلام أمر بالتدريب وحث عليه، لأن الجهاد فرض على كل مسلم قادر على حمل السلاح. فالمسلمون كلهم جند في جيش المسلمين، يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الرمي ـ وساق جملة منها إلى قوله ـ وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا»، وقد شوهد كثير من الأئمة وكبار العلماء يمارسون الرمي بعد أن بلغوا الشيخوخة المتقدمة، ومنهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فإذا سئلوا عن سبب هذه الممارسة أو لمحوا استغراب الناس مما يفعلون أجابوا المتسائلين والمستغربين بهذا الحديث النبوي الشريف.]
قلت: ومن الذين استمروا في التدريب على الرمي حتى الشيخوخة عقبة بن عامر الصحابي، راوي الحديث، وقد قال هذا الحديث لما استغرب الراوي عند تَدَرُّبَه في شيخوخته، فروى له الحديث كما في صحيح مسلم.
ثالثا: على مَنْ يجب التدريب العسكري ؟
قال ابن قدامة الحنبلي: [ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة]. ويضاف إلى هذا شرطان آخران: إذن الوالدين وإذن الدائن للمدين ، فيكون مجموع الشروط تسعة.
قلت: هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد تسقط أربعة شروط من هذه التسعة وهي: الحرية والذكورية وإذن الوالدين وإذن الدائن، وتكون شروط وجوب الجهاد العيني خمسة فقط وهي: الإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الضرر ووجود النفقة، ويسقط كذلك شرط وجود النفقة وتصير الشروط أربعة فقط إذا دهم العدو بلاد المسلمين ولم يكن هناك خروج إليه، وهذا أحد مواضع الجهاد العيني.
وقد قرر هذا فقهاء المذاهب المشهورة، فمن الأحناف قال علاء الدين الكاساني: [فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على البلد، فهو فرض عين، يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه لقوله سبحانه وتعالى:{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً}، فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه]، وقال الرملي من الشافعية: [فإن دخلوا بلدة لنا وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر فيلزم أهلها الدفع حتى من لا جهاد عليهم من فقير وولد وعبد ومدين وامرأة]. وأمثلة هذه الأقوال لعلماء المذاهب كثيرة ومشهورة.
وقد خالف ابن حزم الجمهور في مسألة إذن الوالدين في جهاد العين، فقال لا يعتبر إذنهما في جهاد العين إلا أن يهلكا بخروجه، كأن لا يكون لهما عائل غيره، قال ابن حزم رحمه الله: [ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم، أَذِنَ الأبوان أم لم يأذنا، إلا أن يُضَيَّعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يَضِيع منهما] فالله أعلم.
قلت: وما ذكره السادة الفقهاء من وجوب الجهاد العيني على المرأة فيه نظر، وقد يَظُن البعض أن هذه المسألة أجمع عليها العلماء أو هي قول جمهور الفقهاء، وليس الأمر كذلك.
فالذين قالوا بوجوب الجهاد على المرأة في كل مواضع الجهاد العيني، أخذوا هذا من القاعدة الفقهية القاضية بأن فروض العين تجب على كل مسلم مكلف (بالغ عاقل) بلا تفريق بين الذكر والأنثى. كما نقلته عن الكاساني من الأحناف والرملي من الشافعية.
إلا أن النصوص الشرعية الخاصة بجهاد النساء تخالف هذه القاعدة ويجب الأخذ بها. وتفصيلها كالتالي:
روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه (باب جهاد النساء) عن عائشة «استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال جهادكن الحج». قال ابن حجر: [وقال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء، ولكن ليس في قوله: «جهادكن الحج» أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد]، وفي رواية أحمد بن حنبل عن عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»، فهذا الحديث بَيَّن أن المرأة غير مخاطبة بالجهاد بدون تفريق بين ما هو فرض كفاية وما هو فرض عين. وكذلك لم يفرق الشراح (ابن حجر وابن بطال) بين الفرضين في حق النساء.
وقد كان الجهاد يتعين كثيرا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِد إلينا نص ولو ضعيف في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالقتال حتى نعتبر هذا النص مُخَصَّصا لحديث عائشة السابق.
فمن المواضع التي يتعين فيها الجهاد، إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير، ومن ذلك غزوة تبوك لم يستنفر النبي صلى الله عليه وسلم قوما دون قوم بل كان النفير عاما بدلالة قوله تعالى في شأن هذه الغَزَاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}، ومعلوم أن الخطاب ب{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يشتمل الرجال والنساء، إلا أن النساء لم يخرجن في هذه الغزوة بدليل قول علي بن أبي طالب ـ لما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في هذه الغزوة ـ قال علي (أتخلفني في النساء والصبيان). وهذا يدل على أن النفير العام لا يشمل النساء، وبالتالي يبقى حديث عائشة السابق على عمومه دون تخصيص.
وأيضا من المواضع التي يتعين فيها الجهاد، إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم، وهذا حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، قال تعالى:{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، ولم تخرج النساء للقتال في هذه الغزوة بل جُعِلْن في الآطام والحصون.
وقول ابن قدامة الحنبلي مشعر بهذا قال: [مسألة “وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا المقل منهم والمكثر، ولا يخرجوا إلى العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يَفْجَأهُم عدو غالب كَلَبَه فلا يمكنهم أن يستأذنوه” قوله المقل منهم والمكثر: يعني به والله أعلم الغني والفقير، أي المقل من المال ومكثر منه، ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يُحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال....]. فقول ابن قدامة (لحفظ المكان والأهل) مشعر بأنه ليس على النساء خروج إذا دهم العدو البلدة.
وكذلك قال ابن تيمية: [ونظيرها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، وتكون المُقَاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم. فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طالب، لا يجوز الانصراف فيه بحال. ووقعة أحد من هذا الباب، وقوله أقل من النصف أي جند المسلمين أقل من جند العدو، وقوله (فإن انصرفوا استولوا على الحريم) يدل على أنه لا يرى خروج النساء للقتال في هذا الموضع من مواضع الجهاد العيني.
وبهذا أقول بأن الجهاد لا يجب على المرأة في كل مواضع الجهاد العيني، وقد يجب في حالة واحدة وهي إذا ما داهم العدو بلدا وخلص إلى البيوت والنساء، فللمرأة أن تقاتله دفاعا عن نفسها وعمن معها. وقد روى مسلم عن آنس قال: «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا فَكَانَ مَعَهَا فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا هَذَا الْخِنْجَرُ قَالَتِ اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ» الحديث. ومن هذا الباب أيضا ما فعلته صفية بنت عبد المطلب في غزوة الخندق، كما ورد في السيرة ـ إن صحت الرواية ـ.
ومع القول بعدم وجوب الجهاد على المرأة إلا في حالة معينة، إلا أنه يجوز لها أن تخرج متطوعة في الغزو بإذن الأمير، فقد روى مسلم عن آنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سُليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيَسْقين الماء ويداوين الجرحى) وروى مسلم عن مثله عن ابن عباس، وقيد الفقهاء بالمرأة الكبيرة ومنعوا الشابة والجميلة، قال ابن قدامة: (قال الخرقي: ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا الطاعنة في السن، لسَقْي الماء ومعالجة الجرحى، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ).
والخلاصة:
أنه إذا وجب الجهاد على المرأة في حالة معينة، فقد وجب الاستعداد لذلك بالتدرب على استعمال السلاح، ويكتفي في هذا بأنواع السلاح المستخدم في حماية النفس، ويدربها زوجها أو محارمها أو امرأة مدربة. صحيح لم ينقل إلينا نص في ذلك، ولكنا نستنبطه من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لأم سليم باستخدام الخنجر في قتال العدو، فإذا تقرر لدينا استخدام المرأة للسلاح فقد وجب تدربها عليه، إذ مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله تعالى أعلم بالصواب.
أما سن وجوب التدريب العسكري، فهو سن التكليف الشرعي، وهو سن البلوغ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (رُفِعَ الْقَلَمَ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ»)
وتحديد سن البلوغ يكون بالاحتلام أو الإنبات أو السن.
فالاحتلام بأن يخبر الصبي عن نفسه بذلك ويصعب التحقق منه.
والإنبات هو نبات الشعر الخشن حول الفرج، ودليله حديث عطية القرظي قال: (عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَأَمَرَ مَنْ يَنْظُرُوا: مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ فَكُنْتُ مِمَّنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي).
وأما السن فهو بلوغ السن الخامسة عشرة لحديث نافع عن ابن عمر قال: «عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ». وقال النووي: [(باب بيان سن البلوغ) وهو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين ويجري عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغير ذلك، قوله عن ابن عمر ـ وساق الحديث السابق ـ هذا دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم قالوا: باستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفا وإن لم يحتلم فتجري عليه الأحكام من وجوب العبادة وغيره، ويستحق سهم الرجل من الغنيمة ويُقْتَل إن كان من أهل الحرب ـ إلى قوله ـ «لَمْ يُجِزْنِي وَأَجَازَنِي» المراد جعله رجلا له حكم الرجال المقاتلين .
فسن خمس عشرة سنة كقرينة على البلوغ والاحتلام هو سن التكليف الشرعي، تجب عنده فروض العين، ومنها جهاد العين إن تعين، وبالتالي فهو السن الذي يجب عنده التدريب العسكري على المسلمين. ووجدت الشيخ أبا بكر الجزائري في كتابه منهاج المسلم يقول أن التجنيد الإجباري يجب على المسلم إذا بلغ الثامنة عشرة من عمره، ولم يذكر مستندا أو دليلا لتحديده هذا السن، ولا استحضر له دليلا، فالله أعلم .
ومما يؤيد سن الوجوب الذي ذهبنا إليه ما ذكره ابن عبد البر في مختصر السيرة قال: (وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ـ في غزوة أحد ـ سَمُرَة بن جندب الفزَاري ورافع بن خديج ولكل واحد منهما خمس عشرة سنة، وكان رافع راميا، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس بن أرقم وأبا سعيد الخدري، ثم أجازهم كلهم عليه السلام يوم الخندق ـ أي بعد ذلك بعام ـ إلى قوله ـ وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة سنة وأجاز من بلغها) .
ومن تأمل قول ابن عبد البر، إن الصحابي رافعا بن خديج عندما أُجِيز للقتال في هذا السن كان راميا، أي متقنا للرماية، أدرك أنه تدرب على الرماية حتى أتقنها قبل سن الخامسة عشرة، وأدرك أن الصحابة كانوا يتدربون قبل بلوغهم هذا السن ليصبحوا مؤهلين للقتال عندها.
والخلاصة: على من يجب التدريب العسكري؟
يجب على كل مسلم بلغ الخامسة عشرة من عمره وهو عاقل سالم من العاهات والأمراض المانعة من التدريب، واحداً للنفقة إذا لم يتم التدريب إلا بها.
ومعنى هذا أننا جعلنا التدريب فرض عين على المسلمين، فيسقط اعتبار الحرية والذكورية وإذن الوالدين وإذن الدائن. وذكرت ما يخص المرأة على التفصيل من قبل.
والأمة المسلمة أمة مجاهدة، وهي الوحيدة من أمم الأنبياء المكلفة بنشر دينها في الناس كافة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»، وذلك استجابة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. وهذه النصوص الشرعية تبين عِظَم التَّبِعَة المُلقاة على عاتق المسلمين في كل جيل، فالأمر جد لا هزل فيه.
وقد كان التدريب قديما ميسرا لكل مسلم وذلك لبساطة الأسلحة كما وكيفا، ولكن مع تطور الأسلحة باكتشاف البارود وظهور الأسلحة الفتاكة والثقيلة، خشي الحكام الظالمون من محاسبة الشعوب لهم، فَقَصَرُوا حمل السلاح والتدرب عليه على فئة محدودة موالية لهم من الشعب ومن الفئة المسماة بالجيش، وظلت بقية الشعب محرومة من ذلك، بل ومقهوره في أغلب الأحيان بالأقلية المسلحة، وحتى لا تشعر الشعوب بالقهر الحقيقي الذي يكتنفها، أغرقها الحكام الظالمون في كل ما يلهيها عن ذلك: من صراع على لقمة العيش إلى ملاهي وطرب إلى مسرح وسينما إلى ملاعب ومباريات إلى أندية ومسابقات إلى خِدَع صحفية إلى أحزاب وانتخابات وبرلمانات وغير ذلك من الأساليب الشيطانية لخِدَاع الشعوب.
فلإحباط هذه السياسات الشيطانية يجب على كل مسلم أن يغتنم أي فرصة تتاح له للتدريب وعليه أن يسعى لذلك: قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، فإن ترك السعي في هذا الأمر أي ترك إعداد العدة للجهاد هو من صفات المنافقين، كما قال الحق جل وعلا: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، وعلى المسلم أن يحصل على أقصى قدر متيسر من التدريب، لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وللحديث: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وعلى المسلمين أن يتعاونوا على تحقيق هذا الواجب الشرعي، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، ويكون ذلك بتيسير وصول المسلمين إلى ميادين التدريب والجهاد، وإمدادهم بالمال اللازم ورعاية أسرهم ومن يعولهم في غيابهم وغير ذلك من صور المعونة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا»، وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وتتأكد هذه المعاونة خاصة في حق من لم يخرج بنفسه، و (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا).
والحد الأدنى من التدريب ـ إن عُدِمَ السلاح ـ هي الرياضة البدنية العنيفة، فهي تنفع إن شاء الله مع النية الصالحة، وهي أساس أي تدريب عسكري، وهي متيسرة لجميع المسلمين ولو في غرفة ضيقة مع بعض الأدوات الرياضية البسيطة فلا ينبغي أن يُغْفَلَ عن هذا.
رابعا: أصحاب الأعذار الشرعية:
أقصد المعذورين من المكلفين أما غير المكلف (وهو غير المسلم وغير البالغ وغير العاقل أي الكافر أو الصبي أو المجنون) فلا نتكلم عنه هنا.
وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن التدريب يجب على كل مسلم بالغ عاقل سالم من الضرر واجد للنفقة، ذكر أو أنثى على احتياط بشأن تدريب المرأة ذكرته من قبل.
فما هي الأعذار الشرعية المُسْقِطة لوجوب التدريب؟. هي إما عجز من جهة القوة (عمى أو عرج أو عجز) أو عجز من جهة المال (عدم وجود النفقة) والآيات التي وردت فيها هذه الأعذار هي:
آية النساء {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}، وأولوا الضرر هم أصحاب الأعذار.
آية براءة {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ).
آية الفتح : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).
أما آية النور ففيها خلاف، هل هي خاصة بالجهاد أم بالمطاعم؟. وهي قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا).
وقد ذكر ابن قدامة الحنبلي أصحاب الأعذار أثناء كلامه عن شروط وجوب الجهاد، فقال: وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وهو شرط لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد، وأما العمي فهو معروف، وأما العرج فالمانع منه هو الفحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب كالزَّمانة ونحوها، وأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العَدْو فلا يَمْنَع وجوب الجهاد لأنه مُمْكن منه فشابَهَ الأعور، وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما اليسير منه الذي لا يمنع إمكان الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب لأنه لا يتعذر معه الجهاد فهو كالعور، وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة فيعتبر القدرة عليها، فإن كان الجهاد على مسافةٍ لا تُقْصَر فيها الصلاة اشترط أن يكون واجداً للزاد ونفقة عائلته في مدة غيبته وسلاح يُقَاتِل به ولا تُعْتَبَر الراحلة لأنه سفر قريب، وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ).
قلت: ويلحق بما ذكره ابن قدامة الشيخ الهرم الذي لا قوة فيه، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ}، فهو من الضعفاء.
الأعذار غير الشرعية.
قَلَّما يتعذر المتخلفون عن الجهاد بأحد الأعذار الشرعية السابقة، بل جُلّ أعذارهم غير شرعية ردها عليهم وأبطلها. ومنها:
ما ذكره الله عز وجل في آية التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وهذه الآية يسميها بعض العلماء آية الأعذار الثمانية، وأُسَـمِّيها آية إبطال الأعذار الثمانية، فلم يقبل الله تعالى هذه الأعذار للقعود عن الجهاد.، وسمى الله تعالى المعتذر بهذه الأعذار فاسقا، وتَوَعَّده سبحانه وتعالى بالضلال في قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وتَوَعَّده سبحانه بالعذاب والنكال في قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». وهذه العقوبات قدرية لابد أن تحمل بكل متخلف عن الجهاد. وكل من آثر شيئا على طاعة الله عز وجل عذَّبه الله به، كما قال تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فليس حب البقاء في الأهل بعذر، ولا الخوف على الأموال والتجارة، ولا الوظيفة والدراسة، قد أبطل الله سبحانه هذه الأعذار. فالواجب أن يتكافل المسلمون فيما بينهم، فمن خرج منهم إلى الجهاد والتدريب وَجَبَ على الباقين كفالة أهله ورعايتهم، وهكذا يتناوبون الأمر بينهم، كما قال أبو سعيد الخدري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إلى بني لَحْيان فقال: «لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا»، وفي رواية «لِيَخْرُج مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ» ثم قال للقاعد: (أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج).
ومن الأعذار الباطلة ما ذكره الله عز وجل في قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}. فلا الحر الشديد بعذر ولا البرد الشديد.
ومن الأعذار الباطلة، القول بأن القائمين على أمر الجهاد ليسوا على المستوى الخلقي والتربوي والشرعي المطلوب، وبالتالي لا يجوز العمل معهم!، وهذه شبهة وجوابها أنه لو أن أمير الجهاد رجل فاجر وكذلك كثير من أتباعه، لكنهم يسعون لقتال الكافرين، فالواجب شرعا العمل معهم ومعاونتهم، وهذا أصل مقرر عند أهل السنة والجماعة، وسأشير إليه بالتفصيل في الباب الثالث، وأذكر هنا بعض ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المسألة قال: (ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لاخلاق لهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو مع عسكر كثير الفجور، فأنه لابد من أحد أمرين: إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين، وإقامة أكثر شرائع الإسلام، وإن لم يمكن إقامة جميعها، فهذا هو الواجب في هذه الصورة، وكل ما أشبهها، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه).
وقد كان المنافقون يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل أحد لا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم طالما خرج المنافقون، ومنهم الذي قال في غزوة بني المصطلق {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}، ومنهم الذين قالوا في غزوة الخندق {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، ومنهم الذين سخروا من علماء الصحابة في غزوة تبوك فأنزل الله فيهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. وكان خلفاء بني أمية يؤخرون الصلوات وما قال أحد لا يجوز الغزو معهم ،والأمثلة كثيرة. فهذه بعض الأعذار الباطلة التي لا تبيح التخلف عن الجهاد والتدرب له.
ثواب أصحاب الأعذار الشرعية.
من كان ذا رغبة صادقة في التدرب والجهاد، وعجز عن الوصول إلى ساحات الجهاد بسبب أحد الأعذار الشرعية المذكورة سابقا، أو بسبب إكراه أو حبس، فإني أرجو أن يكتب الله له أجر الجهاد كاملا، على مقتضى الوعد الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلا سِرْتُمْ سيْرًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ نَعَم حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في مرجعه من غزوة تبوك، ورواه أحمد ومسلم عن جابر مرفوعا بلفظ «لَقَدْ خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجَالا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلا سَلَكْتُمْ طَرِيقًا إِلاَّ شَرَكُوكُمْ فِي الأَجْرِ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» ورواه أبو داود عن أنس وزاد فيه «وَلا أَنْفَقْتُمْ نَفَقَةٍ» قال ابن حجر: [والمراد بالعذر ما هو أعم من المرض وعدم القدرة على السفر، وقد رواه مسلم من حديث جابر بلفظ «حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» وكأنه محمول على الأغلب ـ إلى قوله ـ وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل]. وهذا الحديث يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ». فكلاهما صدق في الطلب وعجز عن العمل فنال الأجر، فضلا من الله وكرما.
وقال القرطبي في شرح حديث «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ»: [فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطي أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل الاستحقاق فيثيب على النية الصادقة مالا يثيب على الفعل. وقيل: يعطي أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة]أهـ.
قلت: تضعيف الأجر للغازي وعدم التضعيف للمعذور قد يستدل له بحديث ابن عباس مرفوعا «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ». وأما من ذهب إلى أجر المعذور مثل أجر الغازي تماما فيستدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس «إِلَّا شَرَكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ» وإن كانت المشاركة لا تقتضي المساواة، أما ما يدل على المساواة في الأجر فهو حديث أبي كبشة الأنماري مرفوعا «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ». ورجح القرطبي المساواة في الأجر. فالله أعلم.
شروط رفع الحرج واستحقاق الثواب لأصحاب الأعذار:
قال الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ).
علق الله تعالى رفع الحرج عن أصحاب الأعذار في هذه الآية على شرطين:
{إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، وإذا من أدوات الشرط: فهذا شرط النصح.
{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}: وهذا شرط الإحسان الذي هو ضد الإساءة.
قال ابن كثير: ([فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا).
قال القرطبي:[ {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه ـ ثم قال ـ قال العلماء: النصيحة لله: إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص، والرغبة في محابه والبعد عن مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته واِلتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم ].
ويمكن ترجمة هذا عمليا في أمر الجهاد، بأن الواجب على أصحاب الأعذار هو ما يلي:
إخلاص النية وصدقها: بأن تكون نفسه تَوَّاقة حقا للجهاد، كهؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ} والحق أن المعذور الذي لا يغزو إن لم تحدثه نفسه بالغزو فإنه يخشى عليه من النفاق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِفَاقٍ». والنية عمل فهي من أعمال القلب، والعمل الصحيح لابد أن يسبقه العلم الصحيح، والعلم المقصود هنا هو أن يعلم المعذور ـ وأولى منه الغازي ـ لماذا يجاهد المجاهدون وأحقية قضيتهم وبطلان قضية خصومهم؟ وهذا لازم وقد أورد البخاري في كتاب العلم من صحيحه [ باب العلم قبل القول والعمل ـ]، وساق الأدلة على ذلك.
الدعاء من أعظم ما يعين به المعذورون إخوانَهم الغزاة هو الدعاء لهم بالنصر ولعدوهم بالخذلان. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ»، وروى النسائي بسند صحيح عن مصعب بن أبي وقاص: أن أباه رأى أن له فضلا على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ).
وقال ابن القيم رحمه الله في قصيدته النونية الموسومة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، قال:
لا للـكـفاية بل عـلى الأعـيـان هذا ونصـر الدين فرض لازم
ت فـبالـتوجـه والدعا بـجـنان بـيـد وإما باللسان فإن عجز
حـبـة خردل يا نـاصر الإيـمـان ما بعد هـذا والله للأيـمـان
وبـنور وجهك يا عظيم الشـــأن بحيـاة وجهك خير مسؤول به
النفقة في سبيل الله: أصحاب الأعذار غير الفقراء يجب عليهم الجهاد بالمال، بتجهيز الغزاة وإمدادهم بالمال والسلاح والمؤن، وبرعاية أسر المجاهدين والشهداء والأسرى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ». والحديث فيه وعد شديد، فمن حبسه العذر عن الجهاد بنفسه وله مال، وجب عليه أن ينتقل إلى البَدَل، وهو تجهيز الغزاة ورعاية أهلهم، وله في هذا الأجر الحسن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا).
وقال ابن حجر ـ في فريضة الجهاد ـ (والتحقيق أيضا أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه والله أعلم).
الدعاية لقضية الجهاد: ببيان الحق الذي يقاتل عليه المجاهدون ووجوب نصرتهم على المسلمين، وبيان الباطل الذي عليه المشركون وما يرتكبونه من فظائع ضد المسلمين وبيان المخططات الشيطانية لصرف المسلمين عن دينهم في معظم بلدان المسلمين وكيفية التصدي لها، وهذه الدعاية ممكنة لكل مسلم خاصة أصحاب الأعذار للمرض أو الفقر، وهي الجهاد باللسان المذكور في قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»، وكان حسان بن ثابت t من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم يهجو المشركين ويعيبهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: (يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم وجبريل معك).
تحريض المؤمنين على الجهاد: العاجز عن الجهاد، عليه أن يُحَرِّض غيره لقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ}، ولقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، وهذا واجب على القادر والعاجز وعلى كل مسلم أن يحرض إخوانه على قتال المشركين، ونحن في زماننا هذا أحوج ما نكون للعمل بهذه الآيات وفي هذا أجر عظيم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ).
النصح للمسلمين والمجاهدين: وله صور لا تعد ولا تحصى، فمنها نقل أخبار المشركين ومخططاتهم إلى المسلمين ليحذروها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ}، ففي هذه الآية تحذير المؤمنين مما يدبره لهم الكافرون من المكر والكيد، ومن النصح للمجاهد أن تعينه على التخفي من عدوه، وتساعده في ذلك ما استطعت إذا احتاج إلى ذلك، ومنها تزويد المسلمين بكل ما يعينهم على قتال عدوهم من معلومات وخبرات، مع كتمان أسرار المسلمين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق كلامه عن جهاد المرتدين: (ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به رسوله، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر به الله رسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وهؤلاء لا ي