لمولد والنشأة:-
من مشرق المجد والرسالة بزغ في ربوع مكة نور ساطع في بيت سيد البطحاء أبي طالب (رضي الله عنه) حيث ولد جعفر (رضي الله عنه) بعد ولدين وهما طالب وعقيل، وكان كل منهم يكبر أخاه بعشر سنين، وبعده بعشر سنين ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبناءً على هذا تكون ولادة جعفر (رضي الله عنه) بثلاثة وثلاثين سنة قبل الهجرة - على التقريب -.
ولاشك أن شخصية جعفر (رضي الله عنه) ازدحمت فيها كل الفضائل والمكرمات، ولم لا وهو قد نشأ في مدرسة أبي طالب (رضي الله عنه)، سيد البطحاء والمحامي الأول عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ورسالته، لا ينكر ذلك إلا جاحد وجاهل فقد امتلأت كتب الأدب والتاريخ بأشعاره الصريحة التي توضح عمق إيمانه بالنبي (صلى الله عليه وآله) ورسالته فقد جاء في السيرة الحلبية (ج1: ص 165):
إن أبا طالب (رضي الله عنه) خطب في زواج ابن أخيه محمد (صلى الله عليه وآله) من خديجة، وقال: (وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل).
وقال راداً على قريش كما نقل البغدادي في خزانة الأدب (ج1 ص 261).
ألم تعلـــموا أنـــا وجدنا محمداً***نبياً كمـوسى خط في أول الكتب
وقال (رضي الله عنه) مخاطباً النجاشي ملك الحبشة:
تعلم خـــيار الــــناس أن محــمداً***وزير لموسى والمسيح ابن مريم
أتى بالهــــدى مثل الذي أتــيا به***فكــــل بـــــأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلـونه في كتابكم بصــدق***حديــــــث لا حــــــــديث المترجم
فلا تجعـــــلوا الله نـداً وأسلــموا***فإن طريق الحــق لـــــيس بمظلم
وقال مخاطباً النبي (صلى الله عليه وآله):
اذهـــب بُني فما عليك غضاضة***اذهب وقر بذاك مــــــنك عيونا
والله لــــن يصلوا إليك بجمعهم***حتى أوسد فـــــي الـتراب دفينا
ودعوتنـي وعلمت أنك ناصحي***ولقد صدقت وكـــــنت قبل أمينا
وذكرتَ ديــــناً لا مــــــحالة أنه***من خـــــير أديــــان البرية دينا
وبعد هذه الصراحة هل يخالج الريب أحداً في إيمان أبي طالب وهل يجوز على من يقول (إنا وجدنا محمداً نبياً كموسى) إلا الاعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدمين، وهل يكون إقرار بالنبوة أبلغ من قوله: (فأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً) وهل فرق بين أن يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وبين أن يقول:
وإن كان أحمد قد جاءهم***بصــــدق ولم يتهم بالكذب
وهل هناك جملة يعبر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم:
وذكرت ديناً لا محالة أنه***من خــير أديان البرية ديناً
وهل يجد المنصف بعد هذا كله ملتحداً عن الجزم بأن شيخ الأبطح كان معتنقاً للدين الحنيف ويكافح طواغيت قريش.
وصدق الشاعر حيث يقول في حقه:
ولولا أبــــو طــــالب وابـــــــنُهُ***لما مُثّل الدين شــخصاً فــــقاما
فذاك بمــــــكة آوى وحـــــــاما***وهذا بيثرب حــــبس الحــــِماما
تكفل عـــــــبد مـــــــــناف بأمر***وآوى فــــــــكان عليٌ تـــــماما
فلله ذا فاتـــــــــحاً الهـــــــــدى***ولله ذا للمــــــــعالي خـــــــتاماً
(شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 84)
وأما أمهُ فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم التي كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأم وهي أول هاشمية تزوجت هاشمياً وولدت له وأدركت النبي (صلى الله عليه وآله) فأسلمت وحَسُن إسلامها.
عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: (كانت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب حادية عشرة) يعني في السابقة إلى الإسلام. وكانت بدريَّة وهاجرت وبايعت معه. وعن الزبير بن العوام قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعو النساء إلى البيعة حين أنزلت هذه الآية: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك..)، وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها وصلى عليها ونزل في لحدها واضطجع فيه وأحسن الثناء عليها.
عن ابن عباس لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) قميصه واضطجع في قبرها فقال له أصحابه: يا رسول الله ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه المرأة، فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرُ بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر (أسد الغابة: ج 7 ص 217).
في هذا البيت الذي كان في ذرى المجد والشرف والذي لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها ولد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) وفتح عينيه على ذينك الأبوين العظيمين والذين أورثا كل قيم الخير والإنسانية لوليدهما المبارك، وبعد أن كبر في كنف أبيه الذي كان بيته مأوى للقاصي والداني، مر أبو طالب بأزمة لكثرة عياله من جهة ولأن موقعه الكبير والمتميز في مكة كان يفرض عليه التزامات مالية غير قليلة، وكان جعفر يرى أباه وهو يواجه هذه الضائقة المادية بكل صبر ويتلقاها بنفس كبيرة مطمئنة. يقول المؤرخون أن أزمة شديدة مرت على قريش وكانت حصة أبي طالب منها كبيرة لما ذكرناه من كثرة عياله من جهة وكثرة التزاماته الاجتماعية باعتباره مقصداً وموئلاً لذوي الحاجات من جهة أخرى، وجاء النبي (صلى الله عليه وآله) لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - قائلاً له: يا عم إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى في هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه، فقال: الناس نعم.
فانطلقنا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً فضمه إليه وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله حتى بعثه الله نبياً فتبعه وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه (سيرة بن هشام: ج1 ص 263).
في موكب الرسالة:-
أسلم جعفر (عليه السلام) بعد أخيه علي (عليه السلام) بقليل وكان إسلامه قبل أن يتخذ النبي (صلى الله عليه وآله) دار الأرقم مركزاً له. ففي الرواية عن علي بن إبراهيم: فأسلمت خديجة (رضي الله عنها)، فكان لا يصلي إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وخديجة (رضي الله عنها) خلفه فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِل جناح بن عمِك فوقف جعفر من الجانب الآخر وصلى عن يساره، وحينها قال أبو طالب لابنيه علي (عليه السلام) وجعفر (عليه السلام):
إن علـــــــياً وجـــــــــعفرَ ثقتي***عند مـــــلم الخطـــوب والكرب
والله لا أخـــــــــذل النــــبي ولا***يخذله مـــن بـــــــني ذو حسب
لا تخذلا وانصــــرا ابــن عمكما***أخي لأمــــــي مـن بينهم وأبي
قال ابن إسحاق في تسمية السابقين إلى الإسلام: وجعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وامرأته أسماء بنت عُميس، وقال بن سعد: أسلم جعفر بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) دار الأرقم ويدعو فيها (طبقات بن سعد: ج 4 ص 23)، وقال اليعقوبي في تاريخه: وأمره الله عز وجل أن ينذر عشيرته الأقربين - إلى أن قال - وأسلم يومئذ (أي يوم إنذار العشيرة) جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
لقد كان جعفر - إذن - من السابقين للإسلام وكان ملازماً لرسول الله ملازمة الظل يرقب أفعاله وتروكه ويسمع أقواله وعظاته ويبصر أعماله وحكمه ويقتص أثره منذ أن كان يصل جناح الرسول الأيسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة الكبرى (رضي الله عنها).
محب المصطفى
عدد الرسائل: 16
تاريخ التسجيل: 23/07/2008
معاينة صفحة البيانات الشخصي للعضو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
*
*
*
*
*
*
*
رد: سيدنا جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه
مُساهمة من طرف محب المصطفى في الأحد أغسطس 17, 2008 11:18 am
الهجرة إلى الحبشة:-
لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما حل بأصحابه من جهد وعذاب قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار، فخرج في المرة الأولى أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، خرجوا متسللين سراً، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه وساروا حتى وصلوا إلى الشعيبة وهي مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة، وكان ذلك في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة وكان من محاسن الصدف أن وجد هؤلاء المهاجرون سفينتين للتجار فحملوهم فيها إلى الحبشة.
وبلغ الخبر قريشاً فخرجوا يجدّون في طلبهم ليحولوا بينهم وبين الهجرة ولكن وصلوا متأخرين فلم يدركوهم وعلى كل الأحوال فقد نجا المهاجرون ولم يستطع المشركون ردهم ويقال أنهم أقاموا في الحبشة ثلاثة أشهر حيث كانوا يعبدون الله باطمئنان وأقاموا معالم دينهم دون أن ينالهم أذىً أو مكروه ثم أنهم بعد ذلك رجعوا إلى مكة حيث بلغهم أن قريشاً دانوا بالإسلام واتبعوا محمداً، وفعلاً رجعوا، لكن ما كادوا يصلون إلى مشارف مكة وسمع المشركون بوصولهم حتى استقبلوهم شر استقبال ولم يتمكن أي واحد منهم من دخول مكة إلا إذا احتمى بجوار واحد من زعماء قريش. وحينها بدأت قريش تسلط ألوان العذاب على هؤلاء العائدين من الحبشة.
إلى الحبشة.. ثانيةً:-
لما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) ما حل بأصحابه من جهد وبلاء أمر المستضعفين منهم بالهجرة بدينهم إلى الحبشة مرة أخرى وكان اختيار الحبشة داراً لهجرة المسلمين خطوة موفقة من خطوات الرسول. ولم يكن انتداب جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) لهذه المهمة العظيمة أمراً اعتباطياً ولعل ما روي من إسلام النجاشي وغيره من الأحباش على يد جعفر مما يؤكد هذا الأمر. وهذه الهجرة الثانية لم تكن كسابقتها حيث ازداد عدد المهاجرين بنسبة ازدياد المسلمين أولاً وشدة إيذاء قريش لهم ثانية حتى بلغ عدد المهاجرين هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة وأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يكون جعفر بن أبي طالب أميرهم ورئيسهم. ينظم أحوالهم ويشرف على شؤونهم علماً أنه كان أصغر الرجال المهاجرين سناً ولكن الرسول اختاره لأنه كان أرجحهم عقلاً وأوسعهم إحاطة بأحكام الإسلام ومبادئه كما كان أعظمهم شجاعة وكانت معه زوجته أسماء بنت عُميس وحين أزمع جعفر على الرحيل مع المهاجرين خرج النبي لتوديعه ودعا له بهذه الكلمات:
(اللهم الطف به في تيسير كل عسير فإن تيسير العسير عليك سهل يسير، أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة)، وعندما رأت قريش أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة قرر زعماؤهم أن يبعثوا في طلبهم رجلين قديرين إلى النجاشي لكي يردوا المهاجرين فمارسوا معهم من جديد الفتنة والاضطهاد واتجه الوفدان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى الحبشة وهما يحملان الهدايا للنجاشي ولبطارقته وحين رأى أبو طالب ذلك بعث للنجاشي أبياتا يحضُهُ فيها على حسن جوارهم والدفع عنهم قائلاً له :
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر***وعـــــمرو وأعــداء العدو الأقارب
فهل نالــــــت أفعال النجاشي جعفرَ***لأصحابه أو عـــــــاق ذلك شــاغب
تعلم أبيت اللـــــعن أنـــــــك مـــاجد***كريم فلا يشــــــقى لديـــك المجانب
تعلمّ بــــــــأن الله زادك بســــــــطةً***وأســـــــباب خـــــير كلها بك لازبُ
وإنك فيــضٌ ذو ســـــــجال غزيرةٍ***ينال الأعـــادي نفـــــــعها والأقاربُ
وحط عمرو بن العاص وصاحبه رحالهما بالحبشة وقابلا الزعماء من القساوسة والبطارقة ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها إليهم. ثم أرسلا للنجاشي هداياه ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين ويستنجدان بهم لحمل النجاشي على إخراجهم من بلاده وكان عمرو بن العاص قد أقنع البطارقة - وهم قواد الجيش - بأن هذا الدين الجديد سيقضي على نصرانيتهم إذا ما سمحوا له بالانتشار واتفق معهم على أن يقنعوا الملك بتسليم هؤلاء المهاجرين إلى قومهم ولا يكلمهم فإن قومهم أعلم بهم وأعلم بما عابوا عليهم.
وتحدد يوم اللقاء مع النجاشي وفي مجلسه الذي يسوده الهدوء والوقار. جلس النجاشي على كرسيه العالي تحف به الأساقفة ورجال الحاشية وجلس أمامه المسلمون المهاجرون تزدانهم السكينة ويطمئنهم الإيمان بوعده تعالى. وعندها اتجه عمرو ورفيقه إلى النجاشي وعرضا عليه طلبهما بتسليمهما المهاجرين. وقالت البطارقة من حوله صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما.
غضب النجاشي وقال: لا والله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أوعدهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولون أسلمهم إليهما، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
وما لبث النجاشي أن سأل المهاجرين عن طبيعة الدين الذي دفعهم إلى مفارقة قومهم، فتقدم جعفر بن أبي طالب ليؤدي المهمة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اختاره لها وبكل هدوء ورباطة جأش، قال: (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فطلب منه النجاشي أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى، فقال له: (هل معك مما أنزل على رسولكم شيء)، قال جعفر: نعم، قال أي شيء: فاقرأه عليّ، انبرى جعفر يتلو عليه آيات من سورة مريم بكل خشوع فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم، ثم أخذ يكفكف دموعه ويقول لمبعوثي قريش: إن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما.
لكن عمرو بن العاص لم ييأس وعاد إلى النجاشي ليجرب حظه مرة أخرى، قائلاً له: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فاستدعاهم وسألهم، فأجابه جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله) هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فتناول النجاشي عوداً، وقال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود، ثم التفت صوب حاشيته وقال وسبابته تشير إلى مبعوثي قريش: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها. فغادر عمر ورفيقه أرض الحبشة عائدين إلى مكة.
وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة لابثين فيها حتى يأذن الله لهم بالعودة إلى رسولهم وإخوانهم وديارهم.
النجاشي يُسلم:-
أثر محاولة قريش الفاشلة لاسترجاع المهاجرين تعززت مكانة المسلمين المهاجرين ولاسيما جعفر (رضي الله عنه) عند النجاشي، حيث تجلت شخصيته الرصينة ومنطقه الفياض وحسن أدبه وأخلاقه، أخذ النجاشي يلتقي جعفرَ بين الحين والآخر فتتجلى له في كل يوم ملكاته وخصائصه العالية أكثر فأكثر، فرأى النجاشي فيه صورة مثلى متجسدة للدين الإسلامي، ولا عجب في هذا فشهادة النبي (صلى الله عليه وآله) صريحة بحقه لما قال له: (يا جعفر أشبهت خَلْقي وخُلُقي).
استطاع جعفر بما أوتي من منطق رصين ورجاحة عقل أن يجذب النجاشي إلى الإسلام، وما هي إلا فترة يسيرة حتى أسلم النجاشي ولكنه كتم إسلامه لئلا يبطش به قومه ويثورون عليه. ومرت سنين على جعفر (رضي الله عنه) وأصحابه في الحبشة وكانت الأخبار تترى عليهم بانتشار الإسلام وتوطيد أركانه بعد أن تجاوز مرحلة الخطر وأصبح له كيان في المدينة وكانوا يتابعون أنباء الانتصارات واحدة تلو الأخرى وقد امتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من أبناء إخوانه المؤمنين الذين خاضوا تلك المعارك المظفرة وكان يتلهف شوقاً إلى إخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان ينتظر الشهادة ليلتحق بذلك الركب المبارك وفعلاً أقبل من الحبشة سنة 7هـ بالوقت الذي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعيش فرحة الانتصارات على أعداء الله بعد أن فتح الله عليه خيبر.
ولما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) استبشر بقدومه وضمه إليه وقبّل ما بين عينيه، وقال: (ما أدري بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر).
محب المصطفى
عدد الرسائل: 16
تاريخ التسجيل: 23/07/2008
معاينة صفحة البيانات الشخصي للعضو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
*
*
*
*
*
*
*
رد: سيدنا جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه
مُساهمة من طرف محب المصطفى في الأحد أغسطس 17, 2008 11:23 am
الشهادة:-
بعد الانتصارات الإسلامية الكبيرة أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) يرسل الدعاة إلى أطراف الجزيرة العربية داعين مبشرين إلى الله، وقد أرسل سنة 8هـ الحارث بن عمير الأزدي إلى بلاد الشام فقتله شرحبيل بن عمر الغساني الذي كان عاملاً للروم في بلاد الشام، وما أن وصل الخبر إلى مسامع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أعد جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ووجّههُ إلى البلقاء في بلاد الشام واستعمل عليهم جعفرَ (رضي الله عنه) مع زيد بن حارثة (رضي الله عنه) وعبد الله بن رواحة (رضي الله عنه). فمضى الناس معهم حتى كانوا بنحو البلقاء فلقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها واقتتلوا قتالاً شديداً وكان اللواء يومئذ مع زيد بن حارثة فقاتل حتى استشهد فأخذه جعفر فقاتل قتالاً شديداً ثم اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر فرسه في الإسلام وأثناء ذلك أصيب جعفر بإصابات عديدة من رماح وسهام الروم فكان ينتزع السهم تلو السهم من جسده غير مكترث بآلام الجراح ولا مبالٍ بدمائه الزكية التي تسيل من جراحاته، وكان يتطلع في تلك الساعة إلى لقاء الله والفوز بنعيمه فكان يرتجز ويقول:
يا حبـــــذا الجـــــــنة واقترابها***طيــــــبةً وبـــــــاردٌ شــــرابها
والروم رومٌ قــــد دنـــا عذابها***كافـــــرة بعـــــــيدة أنســـــابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
يقول المؤرخون: أن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.
وفي طبقات ابن سعد عن ابن عمر أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح.
نبذة من فضائله:-
لما التقى الناس بمؤتة جلس النبي (صلى الله عليه وآله) على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتركهم وأخذ يحدث المسلمين إلى أن قال: ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا، ثم مضى حتى استشهد فصلى عليه ودعا له ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة.
وفي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لقد رأيته في الجنة - يعني جعفرَ - له جناحان مضرجان بالدماء مصبوغ القوادم، وفي حديث آخر: إن لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة.
وروي أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله) نعى جعفر وزيداً قبل أن يجيء إليه خبرهما، نعاهما وعيناه تذرفان. وقال (صلى الله عليه وآله): اللهم اخلف جعفرَ في أهله كما خلفت عبداً من عبادك الصالحين.
ولما أتى النبي (صلى الله عليه وآله) نعي جعفر (رضي الله عنه) أتى إلى امرأته أسماء بنت عُميس فعزّاها في زوجها جعفر (رضي الله عنه) ودخلت فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي وتقول: واعماه، فقال (صلى الله عليه وآله): (على مثل جعفر فلتبك البواكي).
وفي الاستيعاب (ج1، ص 548): أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) نعي جعفر وزيد بن حارثة، فبكى وقال: أخواي ومؤنساي ومحدثاي.
وفي الإصابة (ج1، ص 238): كان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه، يحدثهم ويحدثونه فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكنيه (أبا المساكين)، وفي مقاتل الطالبيين عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
خير الناس حمزة وجعفر وعلي:-
وينقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج3، ص 406): عن عبد الله بن جعفر حيث يقول: أنا أحفظ حين دخل النبي على أمي فنعى إليها أبي فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تهرقان بالدمع حتى قطرت لحيته ثم قال: اللهم أن جعفر قدم إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته.
ثم قال: يا أسماء ألا أبشرك؟ قالت: بلى بأبي وأمي، قال: فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة. قالت: بأبي وأمي فأعلم الناس بذلك. فقام وأخذ بيدي يمسح بيده على رأسي حتى رقى على المنبر وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى وإن الحزن ليعرف عليه فتكلم فقال: (إن المرء كثير بأخيه وابن عمه ألا إن جعفر قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة).
ثم نزل فدخل بيته وأدخلني وأمر بطعام فصنع لنا وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداءً طيباً عمدت سلمى خادمته إلى شعير تطحنه ثم نسفته ثم أنضجته وأدمته بزيت وجعلت عليه فلفلاً فتغديت أنا وأخي معه وأقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه ثم أرجعنا إلى بيتنا وأتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك وأنا أساوم في شاة، فقال: (اللهم بارك له في صفقته)، فو الله ما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه.
وفي الحديث عن العباس بن موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: سألت أبي عن المآتم، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما انتهى إليه قتل جعفر (رضي الله عنه)، دخل على أسماء بنت عُميس امرأة جعفر، فقال: أين بنيّ فدعت بهم وهم ثلاثة عبد الله وعون ومحمد فمسح رسول الله (صلى الله عليه وآله) على رؤوسهم فقالت: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام فتعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عقلها، فقال: يا أسماء ألم تعلمي أن جعفر (رضي الله عنه) استشهد. فبكت فقال (صلى الله عليه وآله): لا تبكي فإن جبرائيل (عليه السلام)، أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر، فقالت: يا رسول الله لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله، فعجب رسول الله من عقلها ثم قال (صلى الله عليه وآله): (ابعثوا إلى أهل جعفر طعاماً).
هكذا انطوت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الإسلامي متمثلة في سير الشهيد جعفر الطيار (رضي الله عنه)، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
معركة مؤتة:-
والمتحدّث عن الكرك لابدّ له أن يتحدّث عن أهم أقضيتها وهو قضاء (مؤتة) الواقع على بعد عشرة كيلو مترات إلى الجنوب من الكرك.
يتحدّث ياقوت الحموي في [معجم البلدان] تحت مفردة (مؤتة) فيقول: (مؤتة قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وقيل مؤتة من مشارف الشام وبها كانت تُطبع السيوف وإليها تُنْسب المشرفية من السيوف).
وينقل ياقوت في (ج5، ص 254) من [معجمه] كلاماً عن مؤتة، فيقول: (مآب وأذرح مدينتا الشراة، على اثني عشر ميلاً من أذرح ضيعة تُعرف بمؤتة بها قبر جعفر بن أبي طالب. بعث النبي (صلى الله عليه وآله) إليها جيشاً في سنة ثمان للهجرة (630م) فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء - عند أم الرَّصاص إلى الجنوب الشرقي من مأدبا - لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يُقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها فلقيتهم الروم في جمع عظيم).
ومؤتة تقع إلى جنوبي مدينة الكرك على مسافة عن مركز المحافظة تقدَّر بنحو (76 كم2). ويتداخل اسم المدينة وتاريخها مع تلك المعركة الشهيرة التي وقعت بين المسلمين والمشركين في العام (8هـ - 630م)، حيث قاد جيوش المسلمين جعفر بن أبي طالب (عليه السلام). وعن سبب معركة مؤتة يذكر محمد بن عمر الواقدي (المتوفى سنة: 207هـ) في (ج2 ص 755) من كتابه [المغازي] فيقول: (بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحارث بن عُمَير الأزدي ثم أحد بني لهْب إلى ملك بخصرى وهي قطبة من أعمال الشام بكتاب، فلما نزل مُؤتة عرض له شُرَحْبيل بن عمرو الغسّاني وهو من كبار بلاط قيصر، فقال: أين تريد؟ قال: الشام، قال: لعلك من رُسُل محمد؟ قال: نعم، أنا رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدّمه فضرب عنقه صبراً. فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف).
ويضيف الواقدي في (ج2 ص 758) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (خرج مشيِّعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنّية الوداع، فوقف ووقفوا حوله، فقال: اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدوّ الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع (جمع صومعة وهي بيت عبادة النصارى) معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان، في رؤوسهم مفاخر فاقلعوها بالسيوف ولا تقتلُنَّ امرأة ولا صغيراً ولا مُرضعاً ولا كبيراً فانياً، ولا تغرقنّ نخلاً ولا تقطعن شجراً ولا تهدموا بيتاً).
نختصر هنا ما كتبه أبو الفداء ابن كثير (ت: 774هـ 1372م) وهو يتحدّث عن غزوة مؤتة فيقول ما مضمونه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سرية إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان للهجرة فتجهَّز الناس وخرج القوم وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشّيعهم، ثم مضوا حتى نزلوا معاناً من أرض الشام. فبلغ الناس أن هرقل (ت: 641م) قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين. أو كما يعبِّر مؤرّخ: إن هرقل إنّما نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال فشجَّع الناس أحدهم وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلاّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنّما هي إحدى الحُسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ما وَعَدنا الله ووعدنا نبينا وليس لوعده خُلْفٌ وإما شهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان.
وهكذا مضى جيش المسلمين حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها (مؤتة) فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون. فقاتل جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) القوم حتى قُتل، وتسلّم قيادة الجيش من بعده زيد بن حارثة ثم عبد الله بن رواحة.
محب المصطفى
عدد الرسائل: 16
تاريخ التسجيل: 23/07/2008
معاينة صفحة البيانات الشخصي للعضو
الرجوع الى أعلى الصفحة